بالطريقة نفسها التي تفتقد المنطق وفهم بديهية أن التاريخ لا يمكن إلغاؤه, تم في نهاية العام الدراسي الماضي نزع الصفحات الخاصة بالرئيس المخلوع مبارك من المقررالدراسي وكأن هذا التصرف سيمحو ثلاثين عاما من تاريخ مصر.

وكان الأجدي إضافة سطور عن ثورة 25 من يناير التي أطاحت برجل شئنا أم أبينا تولي يوما ما رئاسة مصر. وكان الأوقع حذف الفقرات التي تمنحه بطولات مزيفة كالقول بأنه كان يسعي لإقامة الدولة الفلسطينية ونحن نعلم جيدا أنه أبعد ما يكون عن ذلك.
لكنها طريقتنا في تسييس التاريخ وفرض أهوائنا عليه.. وهي الطريقة التي رفضناها من ثورة يوليو ومن كل الساسة الذين حاولوا تفصيل التاريخ حسب مقاسات السياسة.وإن كنا نريد محو اسم مبارك من كتب التاريخ ,ـ فمن الأولي أن ننتزع اسم بونابرته الغازي وملنر المعتمد البريطاني وقد يحلو للبعض أن يزيل اسم السادات لأنه وقع اتفاقية كامب ديفيد, علينا أن نتوقف ونكف عن السلوك الفرعوني العتيد بمحو كل حاكم اسم من سبقوه , ولا يعني ذلك إطلاقا أن نحتفظ باسم مبارك علي أية منشآت عامة , لأنه بكل تأكيد لا يستحق ذلك ليس لأنه قتل المتظاهرين فقط بل لأنه قتل مصر اقتصاديا وتعليميا وثقافيا وصحيا.اغتال حاضرنا وجزءا كبيرا من مستقبلنا.ومع هذا فينبغي أن يظل اسمه في كتب التاريخ بكل ما له وعليه.
ولعلنا رأينا في وقت قريب ما فعلته ثورة يوليو بفاروق وتاريخ الأسرة المالكة من تشويه لا مثيل له ووصفت عهد الأسرة العلوية بكل نقيصة رغم أن وثائق التاريخ تثبت غير ذلك..ورأينا كيف انقلبت الثورة علي قائدها اللواء محمد نجيب ليصبح جمال عبد الناصربقدرة قادر أول رئيس للجمهورية في مناهجنا الدراسية وتم محو اسم محمد نجيب وهو ما لا يمكن غفرانه لرجال يوليو وإليكم نماذج من فصول تاريخنا المشوه:علمونا أن الخديو سعيد شخص أبله سطحي استغل ديلسبس حبه للمكرونة ليحصل منه علي امتياز قناة السويس وهي صورة منقوصة بكل تأكيد فالخديو سعيد ' 1854 ــ 1863' عندما تولي الحكم حدد الوعاء الضريبي علي أسس عادلة وأعفي القري من سداد الضرائب المتأخرة وأسقطها عنها وقرر سعيد أن يطرد الجنود الأجانب من الجيش ليحل محلهم المصريون وتكون للجيش المصري هويته القومية. كما عمل علي وضع المصريين في المناصب الإدارية العليا بدلا عن الأتراك. بل وأعطي الفلاحين الأراضي التي كانت لاتزال ملكا للدولة وسمح لهم بحرية التصرف في محاصيلهم.
- لقد تم تشويه تاريخ أسرة محمد علي وتصويرها علي أنها الشر المطلق وهذا غير صحيح وغير منطقي فمحمد علي مؤسس هذه الأسرة هوالذي بني مصر الحديثة رغم أصوله الألبانية التي يتخذها البعض حجة عليه وتناسي هؤلاء أن حكامنا المصريين ذوي الأصول الريفية الفقيرة هم الذين أذاقونا الأمرين فقرا وجوعا وقهرا وظلما. وأوهمونا أن أفراد الأسرة العلوية كانوا جهلاء كسالي وأن أكبر نشاط يمكن أن يقوم به أي منهم أن يتثاءب..
لنكتشف أن من بين أفراد تلك الأسرة العالم المكتشف لصحراء مصر والذي وضع الخرائط لتلك الصحراء وأقصد به يوسف كمال الدين ومنهم صديق الفلاح الذي سمي بذلك نظرا لجهوده في الارتقاء بشئون الفلاح المصري وهو الأمير حسن طوسون والذي كان جزاؤه من ثورة يوليو نزع اسمه من علي الشارع الموجود به قصره بالإسكندرية..
ومن بين أفراد هذه الأسرة كمال الدين حسين الذي رفض تولي حكم مصر في ظل الاحتلال البريطاني وهو الذي فقد ساقه في إحدي الرحلات العلمية الاستكشافيه ومن أفراد هذه الأسرة من أقام المدارس والمستشفيات.- علمونا أن ثورة يوليو قامت للقضاء علي الملكية وهي معلومة خاطئة , فالثورة قامت لعزل الملك فاروق وتولية ابنه الأمير أحمد فؤاد علي عرش البلاد بدليل أن إعلان الجمهورية لم يتم إلا عام 1953.
وكان أول رئيس للجمهورية اللواء محمد نجيب لا جمال عبد الناصر كما درسوا لنا في كتب التاريخ المدرسي..وكما تم إغفال اسم اللواء نجيب تم تجاهل اسم اللواء يوسف صديق الذي كان السبب الأول في نجاح الثورة باقتحامه مقر قيادة الجيش وقبضه علي كل الرتب الكبيرة.-المناهج نفسها التي تجاهلت عمدا ومع سبق الإصرار والترصد اسم محمد نجيب كأول رئيس لمصر هي ذاتها التي وضعت سعد زغلول قائدا لثورة 1919 بينما كان هو منفيا في جزيرة مالطة وقامت الثورة شعبية خالصة..
ثورة تحتية لا فوقية.وهذا نوع من عدم الدقة ينبغي تداركه, ثورة 19 قامت من أجل سعد لا بقيادته. فلماذا يبخس المصريون حقهم ؟ وهذه هي سيرتنا في تأليه الرموز الوطنية متناسين أنهم مجرد بشر لهم أخطاؤهم وأذكر أنني قرأت دراسة مهمة للمؤرخ الراحل يونان لبيب رزق أكد فيها أن المقولة الأثيرة التي تنسب لأحمد عرابي ' لقد خلقنا الله أحرارا ' مشكوك أنه قالها في ساحة عابدين للخديو توفيق مؤكدا أن كل الصحف العربية والأجنبية التي غطت أحداث الثورة العرابية لم تشر من قريب أو بعيد لمثل تلك العبارة التي جاءت في مذكرات عرابي وهذا لا يقلل من شأن الزعيم العظيم أحمد عرابي لكنه ينبهنا إلي ضرورة تحري الدقة عند كتابة التاريخ.- وبنفس المنطق لماذا تصر كتب التاريخ علي حصر نصرأكتوبر في شخص السادات..ولماذا لم تذكر بطولات القادة الذين قادواإلي هذا النصر ومنهم اللواء عبد المنعم رياض؟- ونأتي إلي نقيصة أخري في كتب التاريخ وهي علي ما أعتقد متعمدة.. فقد درجت مناهج التاريخ علي تصوير ثورات المصريين ضد الاحتلال الأجنبي لكنها لم تتطرق إلي ثوراتهم علي الحكام والولاة الظالمين خصوصا من الأتراك والمماليك بل وفي حقبات سابقة ترجع إلي العصر الفرعوني.
- وعندما نتحدث عن التاريخ الفرعوني فإننا نجد أننا ندرسه بطريقة الكتالوج السياحي , فالهرم الأكبر إحدي عجائب الدنيا السبع دون أن يعرف الطالب الأسباب التي جعلت منه إحدي هذه العجائب.. ودون أن نربط الماضي بالحاضر فنطلعه علي الأهرامات التي تبني في أوروبا حاليا من الزجاج والخشب بهدف الشفاء..
ولم نربط الماضي بالحاضر عندما أغفلنا أن نذكر لأولادنا أن مصر اكتشفت منذ سنوات مقابر بناة الأهرام وهو ما يؤكد كذب الادعاء الصهيوني بأنهم شاركوا في بناء أهرامات مصر. وبنفس الروح من السطحية في كتابة تاريخ مصر لم نتعامل مع التاريخ كحلقات متصلة ولم نعلم أبناءنا فكرة التواصل في التاريخ المصري من خلال دراسة تاريخ التراث الشعبي الحقيقي وكأن التاريخ مقصورا علي الملوك والأمراء دون العامة وكأن هؤلاء الحرافيش كتب عليهم أن يتواروا في مجاهل التاريخ وهذا يأخذنا إلي النقطة التالية.- بدلا من الحشو في التواريخ التي لا داعي لها كان من الأجدي أن نربط الماضي بالحاضر من خلال وضع معلومات شيقة فكم منا يعلم أن أكلة ' أم علي ' الشهيرة إنما تنسب إلي ضرة شجر الدر التي قامت بتوزيع الرقاق المحلي بالسكر ابتهاجا بقتلها ضرتها.. وكم منا يعلم أن معظم الكلمات التي تهدهد بها الأم وليدها هي بقايا اللغة المصرية القديمة مثل 'أمبو' و'مم' وكم منا يعلم أن أكثر من 90 % من عاداتنا عمرها من عمر الحضارة المصرية.. فنحن نأكل الفسيخ والرنجة ونلون البيض مثل أجدادنا الفراعنة.. ونأكل مثلهم الفول والطعمية والبصارة. بل إن هناك دراسة ظهرت أخيرا عن الجامعة الأمريكية كشفت أن طرق الطهي المستخدمة في معظم أكلات المصريين خصوصا في الصعيد مستوحاة من المطبخ الفرعوني.
بل إن أسماء شوارعنا هي من صميم التاريخ فكم منا يعلم أن شارع باب البحر في منطقة الفجالة وشارع ميناء المقسي سمي بذلك لأن النيل كان يمر في منطقة رمسيس الحالية أمام مسجد الفتح وأن المقسي هذا من أئمة التصوف وكم منا يعلم أن شارع قصر اللؤلؤة في المنطقة نفسها سمي بهذا نسبة إلي أحد القصور الفاطمية المهمة وكم منا يعرف سر تسمية شارع الخليج بهذا الاسم ومن منا يعلم أن شارع قصر العيني وهي التسمية الصحيحة يعاد إلي قصر أحد الأثرياء العيني بك, والأمثلة لا تعد ولا تحصي.- أما التاريخ القبطي الذي تداركت خطأ تهميشه وزارة التربية والتعليم أخيرا فعندما اكتشفت أن هناك حقبة بأكملها في التاريخ المصري مغيبة أو سقطت سهوا..
رغم أن هذه الحقبة تصل إلي 700 سنة في سلسلة التاريخ المصري.. ولكن الأمر لا يبدو مستغربا في ظل ما تعانيه مناهج التعليم من قصور رهيب ويكفي أن أحد دروس اللغة العربية التي تدرس للصف الرابع الابتدائي لم تجد سوي المتحف الإسلامي كنموذج لعظمة الآثار الإسلامية وغفلت تماما الجامع الأزهر وجامع عمرو بن العاص ومسجد السلطان حسن وغيرها.. وهذا يجعلنا نغض السمع عن الأقاويل التي أثيرت حول تدريس التاريخ القبطي وادعت أن إهماله جزء من الاضطهاد الديني للأقباط في مصر. وأن العمل علي تدريسه إنما جاء بعد ضغوط من المفكرين الأقباط والمنظمات الخارجية.. لأننا نعاني بوجه عام من قصور في إدراك قيمة دراسة التاريخ وعدم تزييفه. لكن ما تم وضعه عن هذا التاريخ لا يتعامل مع التاريخ القبطي كتاريخ لكل المصريين..
وعلينا أن ندرك أن التراث القبطي امتداد طبيعي للتراث المصري القديم كتراث شعبي لا مسيحي وأن هذا التراث تفاعل مع الفنون الإسلامية علي اختلافها وأفرز لونا جديدا امتزجت فيه التأثيرات المسيحية والإسلامية إذا زرت منطقة مصر القديمة ستكتشف مدي هذا التداخل في فنون الأرابيسك من زخارف هندسية إسلامية تتخللها علامات الصليب وكتابات بالعربية في أبواب الكنائس وهياكلها . ولا ننسي أن أقباط مصر هم الذين كانوا ينسجون أفخر أنواع النسيج التي عرفت باسمهم ' النسيج القباطي ' والتي كانت تصنع منها كسوة الكعبة. ألا يجدر بنا أن نعلم أبناءنا هذا الفكر الذي يعكس الامتزاج والتفاعل في الشخصية المصرية وهذا كفيل بوأد الفتن ومحاربة طيور الظلام أكثر ألف مرة من الأغاني التي قد تدغدغ العاطفة لوهلة..
أليس أجدي بنا أن نعلم أبناءنا أن أقباط مصر هم الذين ساعدوا عمرو بن العاص علي فتح مصر حتي يخلصهم من ظلم الرومان حتي نقضي علي تلك المقولات التي يرددها بعض المتعصبين من أن الفتح العربي كان غزوا وأن مسلمي اليوم هم أحفاد الغزاة. إن الحقبة القبطية التي امتدت من نهاية العصر البيزنطي حتي الفتح الإسلامي وإن ظل تأثير تلك الفترة القبطية في التاريخ الإسلامي حتي القرن الثامن الهجري. فهذه الحقبة لا تخص مسيحيي مصر بل تخص كل المصريين حتي وصفها ' بالحقبة القبطية 'فكلمة ' قبطي ' التي تطلق علي ذلك العصر ترجع في الأصل إلي الاسم المصري القديم لمعبد بتاح في منف وهو ' حه كا - بتاح ' وكان اسم العاصمة ' منف ' يطلق مجازا علي مصر كلها كما هو الحال اليوم حين تسمي المحافظة باسم عاصمتها. وانتقل هذا الاسم إلي الإغريقية فغدا ' ايجيبتوس ' ثم انتقل إلي العربية فأسقط أوله علي أنه حرف للتعريف مقابل ' أل '. كما أسقط آخره علي أنه حرف إعراب وبقي ' جبت ' التي أصبحت ' قبط ' وصارت تدل علي السكان أكثر مما تدل علي البلد وصارت الكلمة اسما مميزا لمسيحيي مصر وأصبح تاريخ الأقباط هو تاريخ المسيحية. وعلينا أن نفخر ويفخر أبناؤنا بمكانة الكنيسة القبطية في العالم المسيحي, فتلك الكنيسة حمت آلاف النصوص والدراسات اللاهوتية والإنجيلية وما زالت متاحف ومكتبات العالم تحتفظ بمئات الآلاف من المخطوطات القبطية. كما أن قانون مجمع نيقية الذي تقره كنائس العالم كتبه بابا الإسكندرية ' أثناثيوس ' الذي استمر علي كرسيه 46 عاما ( 327 -373 ).
كما أن مدرسة الإسكندرية عند نشأتها 190م كانت أهم معهد للتعليم الديني في الإسكندرية وكثير من الأساقفة البارزين في العالم تعلموا فيها مثل العلامة 'أوريجانوس' الذي يعد الأب الشرعي لعلم اللاهوت وصاحب أكثر من 6000 تفسير للكتاب المقدس. كما أن نظام الرهبنة في المسيحية بدأ في مصر أواخر القرن الثالث الميلادي وكان الأنبا أنطونيوس أول راهب في تاريخ المسيحية قبطيا من صعيد مصر وكذلك الأنبا باخوسيوس الذي أسس نظام الرهبنة.
وبنهاية القرن الرابع الميلادي تم بناء مئات الأديرة والكهوف وما زالت الأديرة القبطية تستقبل آلاف الزوار من جميع أنحاء العالم وعندما نتحدث عن الحقبة القبطية , علينا ألا نتجاهل الفن القبطي وهو فن مستقل كانت له ملامحه المميزة التي يمكن لك أن تتبين ملامحه في ما تركه من نسيجيات مرسومة وأيقونات ويقول د. باهر لبيب في كتابه ' الفن القبطي ' إن الآثار القبطية لها أهمية كبيرة في تاريخنا القومي كأسلوب ربط بين الفن المصري في الحقبة الفرعونية والفترات الرومانية اليونانية من جهة , والعصر الإسلامي العربي من جهة أخري..
كما أنها تشكل مرحلة جديدة من آثار الحضارة المسيحية المبكرة, فالفن القبطي ليس انعكاسا فقط للاتجاهات الفنية المتعلقة بالأديرة والكنائس من أجل الأهداف الدينية بل إنه يكشف الوصف الحقيقي للحياة اليومية المعاصرة وإذا نظرنا إلي الأيقونات القبطية التي تزين الكنائس والأديرة الأثرية لاكتشفنا إلي أي مدي انتقلت ملامح الفن الفرعوني إلي الفن القبطي.. ففي تلك اللوحات التي رسم فيها الفنان ملامح القديسين والشهداء سنجد الكثير من زخارف الفن المصري القديم كاستخدام علامة 'عنخ' أو مفتاح الحياة التي كانت بداية رسم الصليب. والسمكة التي كانت رمز الخصوبة عند المصري القديم نسبة إلي السمكة التي التقمت العضو الذكري لأوزوريس. وبعد الفتح العربي يحدث تبادل بين الفنان المسلم ونظيره القبطي في الفنون فدخلت علي الأيقونة الكتابة العربية مثل 'عوض يا رب عبدك'. ونقل الفنان القبطي إلي الأيقونة بعض الزخارف الإسلامية مثل شجرة السرو وهي وحدة زخرفية ظهرت في الفن العثماني. كما رسم الفنان القبطي بعض القديسين وهم يرتدون العمامة. ويبقي أن نقول إن اللغة القبطية حفظت لنا الكثير من ملامح التراث المصري.
No comments:
Post a Comment